فصل: مسألة الشهادة على السماع بالقضاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الشهادة على السماع بالقضاء:

وسئل عن فريقين اختصموا فقضي على أحد الفريقين فخرج المقضى عليهم يحدثون الناس علانية أنه قد قضي عليهم، ثم احتيج إلى قضاء ذلك القاضي فلم يوجد عند أحد منهم علم إلا الذين كان المقضي عليهم يقولون عندهم قد قضي علينا فيسألوا الشهادة بذلك، فقالوا: أما أنه لا يشهد بها. قال: أرى أن يشهدوا بذلك على وجه يقولون سمعناهم يذكرون ذلك، فلا ندري أكان ذلك أم لا؟ قال: ولربما قال المرء قد قضي علي وما قضي عليه، وإني لأرى هذه الشهادة ضعيفة.
قال محمد بن رشد: وقع في هذه المسألة في بعض الروايات أمانة لا يشهد بها، وفي بعضها أم أنه لا يشهد بها وهو أظهر في المعنى. وقوله فيها: إنهم يشهدون بما سمعوا منهم على وجه ما سمعوه منهم صحيح، لا يجوز لهم سوى ذلك وهي ضعيفة على ما قال، لا يصح الحكم بها، إذ ليس بإقرار صريح منهم على تنفيذ الحكم عليهم، إذ قد يقول المرء قضي علي لما يرى من أسباب وجوه تنفيذ القضاء عليه وقرب ذلك عنده وإن لم يكن بعد، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم ما قرب منه ألا ترى أنه قد سمي المأمور بذبحه من ابني إبراهيم ذبيحا ولما يذبح لقربه من الذبح، وهو في اللسان أشهر من أن يخفى. ووجه قوله: إنهم يشهدون بها وإن كانت ضعيفة لا يحكم بها عنده، هو أنه قد يكون الحاكم ممن يرى إجازتها. وهذا مثل قوله في المدونة في الذي يرى خطه ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها كما علم ولا ينتفع، وهو يدل من مذهبه على تصويب المجتهدين، وللقول على هذا موضع غير هذا وبالله التوفيق.

.مسألة الهروب من تولي منصب القضاء:

قال: وقال عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضي بالمدينة إلا كآبة القضاء وكراهيته في وجهه إلا قاضيين سماهما.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الحكاية بين؛ لأن القضاء محنة ومن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك إذ التخلص منه على من ابتلي به عسير، روي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: وددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي، ولا علي وروي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين». وقال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق، وأحق ما اغتم به المسلم وبدت الكراهة والكآبة فيه عليه ما علم أنه مرتهن به، ومسؤول عنه، ومشدد عليه المسألة فيه. روي أنه «ما من قاض يأتي يوم القيامة إلا ويداه مغلولتان إلى عنقه فلا يحلهما إلا عدله». وقال رسول الله: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» الحديث وبالله التوفيق.

.مسألة حظير الحائط المشتمل على مال للغير:

وسئل عمن له ممر في حائط رجل إلى مال له وراء ذلك الحائط، ولم يكن الحائط محظرا، فأراد صاحب الحائط أن يحظر حائطه ويجعل عليه بابا. فقال: ما أرى ذلك له إلا أن يرضى بذلك الذي له الممر في الحائط؛ لأنه إذا كان محظرا مبوبا لم يكن يدخل الذي له الممر في الحائط متى شاء، ويوشك أن يأتي ليلا فلا يفتح له، ويقال له: مثل هذه الساعة لا نفتح لأحد، وإذا كان المطر لم يقعد صاحبه الثاني حتى يأتي، فما رأى ذلك إلا أن يرضى صاحب الممر. قيل له: أرأيت إن حظر ولم يجعل على الحائط بابا يغلق؟ قال: إذا حظر ولم يجعل له بابا يغلق، كيف يدخل منه ويخرج ولا يغلق، فيوشك أن يأتي من يريد الممر إلى حائط هذا الذي له الممر ممن كان يمر فيه ويأتيه منه، فإذا رأى الحائط قد حظر لم يمر، ويوشك أن يطول هذا فينسى حق هذا، ويجعل على ذلك الباب بابا ويقال: للذي له الممر هل تعلم أحدا يشهد على أن ذلك علينا ممرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، قد أوضح مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وجه قوله فيها إيضاحا ارتفع به منها الإشكال، واستغنى به فيها عن الشرح والكلام. وفي قوله في آخر المسألة: فيوشك أن يأتي من يريد الممر إلى حائط هذا الذي له الممر إلى آخر قوله دليل على أن من أحدث بابا أو ممرا أو أضلاعا فوجب قطع ذلك أنه لا يترك لشيء من ذلك أثر دليل على شيء منه، ولا يجزئ في ذلك قطع الضرر إذا بقيت آثاره، وفي هذا اختلاف؛ لأن ما اعتل به من الطول يقدر على رفعه بالإشهاد على ما قاله في رسم الأقضية الرابع من سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات وبالله التوفيق.

.مسألة جلد الخصم الألد:

قال ابن نافع: قال مالك: أخبرني رجل صالح قديم، قال: أدركت الناس وإذا خاصم الرجل الظالم الرجل الملد جلده.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تقدمت والقول فيها في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

.مسألة قضاء القاضي بفهمه:

ومن كتاب الأقضية الثالث:
قال: وسئل مالك عن القاضي إذا اختصم إليه الخصمان، أترى أن يقضي بينهما بما حضر ساعتئذ من الفهم؟ فقال: ذلك يختلف، أما الأمر الذي عرفه ومر عليه وقضى به فذلك يقضي فيه بما رأى، وأما الأمر الذي لا يدري ما هو ولم يقبله بفهمه فلا أرى ذلك حتى يثبت فيه وينظر. وقال عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي للقاضي أن يقضي إلا أن يكون عالما بما مضى من أقضية الناس مستشيرا لأولي الأمر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن الأمر الذي قد مر عليه، وقضى به وعرف وجه الحكم فيه يقضي بما قد تقرر عنده من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو اجتهاد، وليس عليه فيما علم الحكم فيه من طريق النظر والاجتهاد إعادة النظر، والاجتهاد كلما تكررت عليه النازلة بعينها، وأما ما نزل به مما لم يمر عليه فالواجب عليه أن يطلب وجه الحكم فيه في محكم كتاب الله، فإن لم يجده ففي ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صحبته الأعمال، فإذا كان خيرا صحبت غيره الأعمال قضى بما صحبته الأعمال، وهذا معلوم من أصول مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن العمل مقدم على أخبار الآحاد العدول، وكذلك القياس مقدم عنده على أخبار الآحاد العدول على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري، فإن لم يجد في السنة في ذلك شيئا نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك، فإن لم يصح عنده أيضا اتصال العمل بقول بعضهم تخير من أقوالهم ولم يخالفهم جميعا. وقد قيل: إن له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا، وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة، فإن لم يجد في النازلة إجماعا قضى فيها بما يؤديه إليه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء أخذ به، وإن اختلفوا نظر إلى أصح أقوالهم عنده، وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى إذا كان نظيرا لهم، وإن لم يكن من نظرائهم فليس ذلك له. قاله ابن حبيب، والصواب له أن يقضي بما رأى وإن كانوا أعلم منه إذا كان من أهل الاجتهاد؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد عند من يرى التقليد ما لم يتبين له في النازلة حكم، ولا خلاف في هذا، وإنما الخلاف هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد ويقلد من قد نظر واجتهد أم ليس ذلك له؟ فقيل: إن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة. وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد، فإن اختلف عليه العلماء قضى بقول أعلمهم. وقيل: بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة من اختلاف الرواية في الحكاية عن الفقهاء السبعة، والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى، أو له أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم، فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله فذلك جائز إذا كان المشاور من أهل النظر والاجتهاد وبالله التوفيق.

.مسألة القضاء على الغائب في الأرض المتنازع عليها:

قال سحنون: أخبرنا أشهب قال: كتب ابن غانم إلى مالك بن أنس سأله عن الخصمين يختصمان إليه في الأرض فيقيم أحدهما على الآخر بينة بأنها له، فإذا علم بذلك الذي قامت عليه البينة هرب وتغيب فطلب فلم يوجد، أيقضي عليه وهو غائب؟ فقال مالك: اكتب إليه إذا ثبتت عندك الحجة وسألته عن كل ما تريد أن تسأله عنه واستقر علم كل ما تريد أن تسأله عنه عندك فلم ينض له حجة فتغيب فاقض عليه وهو غائب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا تغيب بعد أن استوفى جميع حججه وهرب فرارا من القضاء عليه أنه يقضي عليه ويعجزه، ولا يكون له إذا قدم أن يقوم بحجته، بمنزلة أن لو قضى عليه وهو حاضر، إلا على القول بأن المحكوم عليه إذا أتى بحجة لها وجه بعد الحكم عليه يسمع منه. وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم نذر سنة يصومها من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وأما إن هرب وتغيب قبل أن يستوفي جميع حججه، فالواجب في ذلك أن يتلوم له، فإن لم يخرج وتمادى على مغيبه واختفائه قضى عليه من غير أن يقطع حجته وبالله التوفيق.

.مسألة النزاع في دعوى المال للغائب:

قال: وسألته عن الرجل يموت ويترك زوجته فيكون بيديها ماله ورباعه ودوابه وكل قليل له وكثير، وللهالك أخ غائب فيقوم ابن الأخ الغائب فيقول: أنا أثبت أن هذا المال الذي بيدها كله لعمي ليس لها منه شيء، وإني وارثه فأنا أريد خصومتها، فيقول له: أقم وكالة، فيقول: أنا أثبت ذلك لعمي، فإذا قضي له به وثبت، فضعوه على يدي عدل ولا تدفعوه إلي، أو يقوم في ذلك الرجل بمنزلة ابنه، فيقول مثل مقالته، فقال: أما الابن فإنني أرى أن يمكن من ذلك، فإذا ثبت ما قال لم يدفع إليه، ووضع على يدي عدل إن كان أبوه حيا يوم مات عمه، فأما الرجل غير ذلك فلا أدري ما هذا، ولكني أرى ذلك للابن إن كان أبوه حيا يوم مات عمه، فما ثبت لم يدفع إليه ووضع على يدي عدل.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية للابن أن يخاصم عن أبيه الغائب في رباعه وحيوانه وجميع ما له دون توكيل، وكذلك الأب فيما ادعي لابنه وقع ذلك في الجدار. وقال في الواضحة: إن ذلك في الأب أبين منه في الابن، ولم يجز ذلك لمن سوى الأب والابن من القرابة والعشيرة على ما يأتي له في الرسم الذي بعد هذا، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، غير أنه زاد فيه أنه يمكن من إيقاع البينة وإثبات الحق لا أكثر، فليس ما في رسم الكبش مخالفا لهذه الرواية، وقد حملها بعض أهل النظر على الخلاف، وليس ذلك بصحيح، فإذا أثبت ذلك لأبيه أو لابنه ووضع له على يدي عدل، فجاء فادعاه أخذه بلا يمين، ولا فرق في هذا بين الربع والحيوان وغيره، كما لو كان حاضرا فنازعته زوجته فيه وأقام البينة عليه أنه له، بخلاف ما يدعيه وهو بيد غيره، ذلك لا يتم له استحقاقه إلا بعد يمينه أنه ما باع ولا وهب حاشى الأصول على اختلاف في ذلك، وإن جاء فأقر أنه لا حق له في شيء من ذلك رد إلى المرأة، إلا أن يكون عليه دين يغترق ماله، فلا يجوز إقراره أنه لا حق له فيه، وإن مات قبل قدومه ورث ذلك عنه ورثته، وإن قام عليه غرماؤه قبل قدومه قضي لهم به وأعدوا فيه، وكذا يجب في أحد الورثة يدعي دارا لموروثه وسائر الورثة غيب، فيثبتها على القول بأنه يقضى له بحصته ويوقف حصص الغيب، وهو قول مالك في الرسم الذي بعد هذا، ورواية ابن غانم عنه في الشهادات من المدونة وكتاب الولاء والمواريث منها، خلاف قول ابن القاسم فيهما أنه لا يقضي له إلا بحصته خاصة، ولا يوقف للغيب شيء، وقد اختلف في هذا على أربعة أقوال: أحدها ما حملنا عليه هذه الرواية، وما في رسم الكبش من سماع يحيى من التفرقة بين الأب والابن، وبين سائر القرابة والأجنبيين. والثاني أنه يمكن من قام عن غائب يطلب حقا له من المخاصمة عنه في ذلك دون توكيل وإن كان أجنبيا، ذهب إلى هذا سحنون، وإلى أن القاضي يوكل من يقوم للغائب بحقه، وتأول ما روي عن مالك من أنه لا يمكن من ذلك أحد إلا بوكالة، فقال: معناه فيما طال من الزمن ودرس فيه العلم، وهو أحد قولي ابن الماجشون، وروي ذلك عن أصبغ. والثالث أنه لا يمكن من إقامة البينة، ولا يمكن من الخصومة. والرابع أنه لا يمكن من إقامة البينة ولا من الخصومة، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة ومطرف، وقد قيل: إن القريب والأجنبي يمكن من المخاصمة في العبد والدابة والثوب دون توكيل؛ لأن هذه الأشياء تفوت وتحول وتغيب، ولا يمكن من المخاصمة فيما سوى ذلك من الدين وغيره إلا الأب والابن. حكى هذا ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وهو قول خامس في المسألة. واختلف إذا أمكن القائم عن الغائب من المخاصمة عنه فيما يدعيه له دون توكيل على القول بأنه يمكن من ذلك. هل ذلك في القريب الغيبة دون البعيد؟ أو في القريب والبعيد؟ فقيل: إن ذلك في القريب والبعيد سواء، وهو الظاهر من رواية أشهب هذه، إذ لم يفرق فيها بين قرب الغيبة من بعدها، وكذلك حكى أبو زيد عن ابن الماجشون في الحيوان يدعيه للغائب ابنه أو أجنبي، ويقيم عليه البينة أن السلطان يوقفه له على يدي عدل ويكتب إليه، قال: لا لأن السلطان ينظر للناس حاضرهم وباديهم ولم يميز قريبا من بعيد. وقيل: إن ذلك في القريب الغيبة دون البعيد، وإلى هذا ذهب سحنون وابن حبيب فيما حكى عن مطرف، وذلك أنه روي عن مالك أن الابن يمكن من طلب دين أبيه دون توكيل. فقال: وذلك إذا كان المدعي له قريبا، فإذا أتى بالبينة أعدى السلطان عليه بالمال فأتى به ووقفه للغائب، وضرب له أجلا. فإن جاء وطلبه أخذه، وإن قال: قد كنت تقاضيه، أو لم يأت إلى الأجل رد إلى الغريم، وإن كان بعيدا لم يوقف له شيء ولم يعوض للغريم إلا بتوكيل. قال: ولو كان حين جحده الغريم فأمكن من إقامة البينة عليه أقام شاهدا واحدا وعجز عن آخر حلف الغريم وبرئ إلى قدوم الغائب، فإن قدم حلف مع شاهده وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، وإن نكل الغريم أولا أخذ منه الحق معجلا ووقف للغائب فإذا قدم أخذه بلا يمين، كالصغير والسفيه يقوم له على حقه شاهد واحد، وكذلك قال في الحيوان والعروض إنه لا يمكن أحد من طلب ذلك للغائب دون توكيل إلا فيما قربت غيبته. قال: ولو كان المطلوب بالدين مقرا به ترك، ولم يعرض له كانت غيبة الأب قريبة أو بعيدة إلا بتوكيل. وقول مطرف هذا في الدين هو نحو ما حكى ابن عبدوس عن سحنون أن من غاب في سفره وترك ماله أو عقاره بيد أحد أن السلطان لا يعرض له، قال: ولو كان لم يتركه بيد أحد فقام عليه رجل فأخذه، فإن القاضي ينتزعه منه ويوكل عليه، ولا يمكن أهل العداء من عدائهم، وقال ابن كنانة: ذلك إلى اجتهاد السلطان.
قال محمد بن رشد: وإنما لا يعرض السلطان لمن غاب وترك مالا له بيد رجل أو دينا له قبله إذا سافر كما يسافر الناس، وأما إذا طالت غيبته وانقطع خبره فالسلطان ينظر له ويحرز عليه ماله، على ما وقع في كتاب طلاق السنة من المدونة. وأما قول سحنون: إذا لم يكن المال في يديه بخلافه أن السلطان ينتزعه منه ويوكل عليه فهو على أصله في أن الأجنبي يمكن من الخصومة عن الغائب دون توكيل. وقد مضى القول في تحصيل الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.

.مسألة القضاء بقول وكيل القاضي:

وسألته عن القاضي يأتيه القوم بينهم الخصومة في قسم شيء بينهم فيولي رجلا حساب ذلك بينهم وهو عنده عدل رضى ثقة فيأتيه فيخبره بما صار لكل واحد منهم، أفيجوز له أن يقسم بينهم بقوله؟ أو لا يجوز ذلك حتى يعلم مثل ما علم الحاسب؟ فإن ذلك قد كان عندنا ولم أقبل إلى أن كتبت إليك بأن أكون دفعت شيئا من ذلك بقول أحد من القسام حتى أعلم منه مثل الذي علموا، فإن كان ذلك شيئا لابد منه صبرت عليه، وإن كان شيئا لي منه سعة فإن ذلك أرفق بي، فقال: اكتب إليه، إنه ليس على القضاة تفتيش مثل هذا ولا علمه، فأرجو أن يكون من مثل هذا في سعة إذا كان الرجل عدلا، وليكن من شأنك أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلا، فإذا ارتضوه وليته أمرهم يحسب بينهم، فإني قد رأيت بعض من عندنا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن القاضي يقبل قول القاسم الذي قدمه للحساب والقسمة بين القوم فيما أخبره أنه صار لكل واحد منهم، فيمضي ذلك ويقضي به ويشهد عليه، وإن لم يعلم صحته إلا بما أخبره به ولا حضر ذلك ولا شاهده، إذ ليس ذلك عليه ولعله ليس من أهل الحساب، فلو حضر وشاهد لم ينتفع بحضوره، وكذلك كل ما لا يباشره القاضي من الأمور بنفسه، فقول مأموره في ذلك مقبول عنده؛ لأن يده في ذلك كيده، وفعله كفعله، ولو اختلف الورثة في القسمة وتنازعوا في حدودها بعد أن قضى القاضي بها ونفذها بينهم على ما أخبره به القاسم الذي قدمه للقسمة فدعاهم القاضي بأصل القسمة التي أشهد عليها وقضى بها فلم توجد، أو وجدت وشهودها قد بادوا أو لم يتبين منها ما تنازعوا فيه، والقاسم حي لقبل قوله، وأمضى شهادته وحده؛ لأنه بمنزلته في ذلك لو كان هو الذي ولي القسمة التي أشهد عليها وقضى بها، بينهم بنفسه، ولو كان القاضي الذي أمره بالقسمة بالقسمة قد مات أو عزل فشهد عند غيره على ما قسم لم تجز شهادته في ذلك وحده ولا مع غيره، كما لا تجوز شهادة القاضي بعد عزله على ما مضى من حكمه. وهذا معنى ما وقع في الأقضية من المدونة، من أنه لا تجوز شهادة القسام فيما قسموا. وقوله: وليكن من شأنك أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلا، فإذا ارتضوه وليته أمرهم، هو أمر يستحب له أن يفعله، وليس ذلك بواجب عليه وجوبا يكون شرطا في صحة قضائه بالقسمة، إذ قد لا يجتمعون على الرضى بأحد، فإذا قدم القاضي من يرضاه جاز، وإن لم يرتضوا به كلهم أو بعضهم، وإنما يقدم القاضي قاسما يقسم بين القوم إذا تنازعوا في القسمة فدعى إليها بعضهم وأباها بعضهم، أو كان فيهم صغير أو غائب. وأما إن كانوا كبارا حضورا راضين بالقسمة فليس على القاضي أن يقدم لهم قاسما إن دعوا إلى ذلك، وليقدموا لأنفسهم من يقسم بينهم محتسبا أو بإجارة، وإذا قدم القاضي قاسما يقسم بين القوم لإباية بعضهم، أو لصغره أو لمغيبه فقسم فلا ينبغي للقاضي أن يشهد على إمضاء فعله حتى يعرضه على الكبار منهم، وعلى من قدمه للصغير، أو للغائب إن كان فيهم صغير أو غائب فيسلموه ولا يعترضوا فيه، ويراه هو صوابا في ظاهره وإن لم يقف على صحة باطنه، فإن اعترضوا فيه جميعا، أو أحدهم نظر في ذلك، وكذلك إنما يقدم من يحسب لهم إذا كانوا لا يقومون بالحساب، أو كان بعضهم لا يقوم به، أو كان فيهم الصغير أو الغائب. وأما إن كانوا كبارا يقومون به فإنهم يؤمرون أن يجتمعوا على الحساب ولا يقدم لهم حاسبا إلا أن يختلفوا في الحساب ويتنازعوا فيه مع اتفاقهم على أصول المواريث وبالله التوفيق.

.مسألة تعديل بعض الشهود وترك الآخرين:

ومن كتاب الأقضية لابن غانم:
قال ابن القاسم: وسأل ابن كنانة مالكا عن الرجلين يختصمان إلى القاضي في الأرض فيقيم هذا بينة من أهل قراه معروفين فيعدلوا على أنها له، ويقيم هذا بينة من أهل قرى وجبال حولها منتحية عنها ولا يأتي لهم بتعديل فيقول هم معروفون في مواضعهم بالعدالة، وهم عندنا غرباء ليس أحد يعرفهم. فقال: إن كانت مواضعهم من عمله فليكتب إليهم فيهم. قال له ابن كنانة: ألا يقضي لهذا الذي جاء بالبينة العادلة؟ فقال: وهذا أيضا قد جاء ببينة. فقال له ابن كنانة: ولكنهم لم يعدلوا. فقال مالك: يقول الخصم هم عدول حيث يعرفون، أكتب إليه إن كان هؤلاء في عمله عليهم وال، فليكتب إليه في أمرهم، وإن كان غير ذلك فليدعهم ولا يقضي بينهم بشيء. فقال له ابن كنانة: إن هؤلاء قد عدلوا ولم يعدل هؤلاء. فقال: إن الأحب إلى أن يدعهم ولا يقضي بشيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الأرض ليست في يد واحد منهما، ولو كانت في يد أحدهما لكان هو المدعى عليه، ولوجب أن تبقى الأرض في يده مع تكافؤ البينتين، أو إلى أجل يضرب له في تعديل بينته إذا عدلت بينة صاحبه. وقيل: إنها توقف إذا عدلت بينة صاحبه حتى يعدل هو بينته. وقوله: فليدعهم ولا يقضي بينهم بشيء، يريد ما لم يطل على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أنه قال: وهذا أحسن؛ لأن خصومتهم في ربع، ولا أرى أن يدعهم هملا أبدا، وليكشف وليستأن، فإذا طال ذلك ولم يأت صاحب البينة المجهولين بشيء قضى لصاحب البينة المعروفين المعدلين. ولو كان الاختصام في غير ربع لم أر أن يبلغ به هذا الاستيناء، ورأيت أن يقضي لصاحب البينة المعروفين بعد تلوم ليس بطويل، وفي قوله: إن كانت مواضعهم من عمله فليكتب إليه فيهم، دليل على أنه إن لم تكن مواضعهم من عمله لم يلزمه أن يكتب إلى قاضي موضعهم في تعديلهم، ومثله في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الشهادات نصا، وهو عندي ظاهر ما وقع في رسم الكبش منه، وفي سماع زونان من كتاب الشهادات المذكور، وقد حمل بعض أهل النظر ما في رسم الكبش وما في سماع زونان على أنه يلزمه أن يكتب في تعديلهم إلى قاضي موضعهم، وإن لم يكن من عمله كما لو كان من عمله، وهو من التأويل البعيد؛ لأنه إنما يلزمه أن يكتب إلى قاضي موضعهم في تعديلهم إذا كان المطلب في حق هو لله، من طلاق أو عتاق وشبهه؛ لأنه يلزمه أن يحتاط في الفروج بما يجد إليه السبيل من الكتاب إلى من يعلم عدالته من القضاة. وأما ما لم يكن فيه حق لله فلا يلزمه السؤال عن الشاهد إلا في موضعه، ويستحب له أن يكتب فيه إلى أهل عمله على ما جاء في هذه الرواية وبالله التوفيق.

.مسألة رجل ورثه أربعة فخاصم رجل منهم في دار حتى استحقها وإخوته غيب:

وسئل مالك عن رجل ورثه أربعة ولد له فخاصم رجل منهم في دار حتى استحقها هو، وإخوته غيب، أتخرج من يد المقضي عليه، وتدفع إلى الذي قضي له بها؟ فقال: لا تدفع إلى الذي قضى له بها، إلا بوكالة، فقيل له: إنهم إخوته، فقال: لا تدفع لأحد إلا بالوكالة، ولكن تنتزع من يد الذي قضي عليه فتوضع على يدي عدل اكتب إليه بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ينزع من يد الذي قضي عليه حظ إخوته الغيب فيوقف لهم على يدي عدل هو مثل رواية ابن غانم عنه في الشهادات والولاء والمواريث من المدونة وهو على قياس القول بأن الحكم يتم في استحقاق الأصول دون يمين، وقول ابن القاسم في المدونة: إنه لا يوقف للغيب شيء، يأتي على قياس القول بأن الاستحقاق لا يتم في ذلك للمستحق إلا بعد يمينه ما باع ولا وهب كالعروض والحيوان، فإذا وقفت لهم حظوظهم على هذه الرواية أعدي فيها غرماؤهم، وكانت لهم إن جاءوا فادعوها وورثت عنهم إن ماتوا، وإن جاءوا فأقروا أنه لا حق لهم فيها ردت إلى الذي كانت بيديه إلا أن يكون عليهم من الديون ما يغرقها فلا يجوز إقرارهم؛ لأن ذلك من ناحية الهبة. وأما على القول بأنه لا يقضي للقائم إلا بحقه ويترك حظ الغيب بيد المدعى عليه يبيع ويغتل ويفعل فيه ما شاء، وهو مذهب ابن القاسم، فلا يعدى فيه غرماؤهم، ولا يورث عنهم إن ماتوا قبل أن يعلم ادعاؤهم له، واختلف على قياس هذا القول إن جاءوا فادعوه أو ماتوا فادعاه ورثتهم على ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون ذلك لهم ولورثتهم بالحكم المتقدم دون بينة ولا استيناف خصومة، وهو قول ابن الماجشون، والثاني أنه يكون ذلك لهم بالحكم المتقدم دون بينة ولا استيناف خصومة، ولا يكون ذلك لورثتهم إلا باستيناف الحكم بعد الخصومة، وهو ظاهر ما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة. وقول أصبغ فيما حكى عنه ابن حبيب. والثالث أنه لا يكون ذلك لهم، ولا لورثتهم بعدهم بالحكم المتقدم دون استيناف الخصام وإعادة البينة وهو القياس، إلا في إعادة البينة، فإنه لا وجه له. وقد أنكر ذلك سحنون في كتاب ابنه. وإن جاءوا فقالوا: لا حق لنا في ذلك، فقد قال ابن الماجشون: إن ذلك يترك بيد المطلوب، إلا أن يكون أحدهم مفلسا قام عليه غرماؤه، فلا ينظر إلى قوله، بخلاف ما يوجب للمفلس، والذي يوجبه القياس والنظر أن يترك حظ الغائب بيد المطلوب، إذا أقر أنه لا حق له فيه وإن كان إقراره بذلك بعد التفليس، إلا أن يدعي الغرماء ذلك له فيستأنف به الحكم لهم وبالله التوفيق.

.مسألة بيع بعض الورثة أرضهم دون الآخرين:

وسئل مالك عن رجل توفي عن أرض كانت عفاء براحا: لا ماء فيها ولا غراس فاقتسمها الورثة فباعوا من غير واحد وخرجت من أيديهم على ذلك، فاغترس المشترون، ومنهم من اشترى ماء فساقه، ومنهم من اكترى، فأقاموا بذلك نحوا من أربعين سنة أو أكثر حتى حيي ذلك وبلغت النخيل، ثم إن بعضهم باع حظه، فقال المشتري حيث اشترى لمن يمر منهم عليه بمائه: لا أدعك تمر به علي، وقال الذي يمر به عليه: هذا الماء لم يزل هكذا منذ أربعين سنة، لا نعرف إلا ذلك. فهل للمالك يمر بمائه في أرضه؟ فقال: نعم، فقال مالك: أرى أن يدعوهم القاضي بأصل قسم ما قاسموا عليه، فإن أتوا به حملهم عليه، وإن لم يكن إلا ما هم عليه أقروا على ذلك، ولم يكن له أن يمنعه. أرأيت الذي باعه لو جاء الآن يمنعهم؟ ما أرى شيئا الآن أمثل أن يقروا على حالهم إذا لم يكن قسم معروف.
قال محمد بن رشد: قوله أرى أن يدعوهم القاضي بأصل قسم ما قاسموا عليه، فإن أتوا به حملهم عليه، يريد أنه إن كان في أصل ما اقتسموا عليه مرور الماء على البائع لزمه، ولم يكن للمشتري في ذلك كلام، إلا أن يكون لم يعلم بذلك فيكون عيبا فيما اشتري، إن شاء أن يمسك وإن شاء أن يرد به؛ وإن لم يكن في أصل ما اقتسموا أن يمر الماء عليه لم يلزمه ذلك، وكان للمشتري أن يمنع منه، فلم ير على هذا في هذه الرواية مرور الماء على البائع في أرضه أربعين سنة حيازة عليه، وهذا على القول بأن الضرر لا يحاز، وقد مضى الاختلاف في ذلك في نوازل أصبغ من جامع البيوع في مسألة المجرى في العرصة، ولا جعل بيعه للأرض رضى منه بترك القيام على المار بمائه فيها، وذلك خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ في أن من أحدث عليه ضرر فلم يتكلم فيه حتى باع لزم المشتري، ولم يكن له فيه قيام، فأحل المشتري محل البائع في القيام عليه بما كان للبائع أن يقوم به عليه، إذ قال: إن القاضي ينظر له بما كان ينظر به للبائع من أن يدعو بأصل القسم فيحملهم عليه. ويدخل في هذا اختلاف بالمعنى؛ لأنه إذا لم يجعل بيعه رضي بترك القيام فهو بمنزلة ما إذا باع ولم يعلم بما أحدث عليه، أو باع بعد أن علم في حال الخصام قبل أن يقضى له، وقد قال في كتاب النكاح الأول من المدونة في الذي يتزوج عبده بغير إذنه فيبيعه قبل أن يعلم، إن المشتري بالخيار بين أن يمسك أو يرد، ولا يكون له من الخيار في التفرقة ما كان للبائع، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه إذا باع في حال الطلب والخصام قبل أن يتم له القضاء أن المشتري ينزل منزلة البائع، ويكون له من الطلب ما كان له. فما في كتاب النكاح الأول معارض لهذه الرواية ولما في الواضحة. ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن بيعه بعد العلم رضى بترك القيام. والثاني أنه ليس برضى، ويقوم المشتري بما كان للبائع أن يقوم به. والثالث أنه ليس برضى من البائع، ولا قيام للمشتري، وإنما له الرد على البائع بالعيب، إن لم يعلم به، فإن رد عليه كان للبائع القيام، وكذلك إن باع السيد العبد الذي تزوج بغير إذنه بعد أن علم بتزويجه يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال وبالله التوفيق.

.مسألة ادعى دارا ومنزلا له في يده لطول غيبة المالك أتأذن لعشيرته في مخاصمته:

وسألته عن عشيرة رجل أتوك فذكروا لك أن رجلا منهم بالأندلس، وأن في يد رجل منهم لصاحبهم منزلا ودارا. وأنه قد ادعى ذلك لنفسه لطول غيبة صاحبهم، وينكر الذي في يده الدار والمنزل الذي ادعوا من ذلك أن يكون لصاحبهم في يده حق، ويسألك عشيرة الرجل الغائب أن تأذن لهم لمخاصمته وإثبات البينة عليه بحق الغائب قبل هلاك من يعلم ذلك ويشهد عليه، وليست في أيديهم منه خلافة. قال: هل ترى أن يأذن لهم في ذلك؟ فقال: أرى ألا يأذن لهم في ذلك، وألا يخليهم إلا بوكالة أو أمر يعرفه.
قال القاضي: هذا مثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة من رواية ابن غانم عن مالك، ومن رواية أصبغ عن ابن القاسم عن مالك. وزاد عن ابن القاسم أنه قال: فإن جهل القاضي فأمره بالمخاصمة فحكم عليه أو له لم يجز ذلك عليه ولا له. قال: وقال ابن نافع مثله. وقد مضى القول على هذه المسألة محصلا مستوفى في الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.